حملة استعمار أم شعلة أنوار؟
[b]
حاول نابليون في نهاية القرن الثامن عشر إخضاع مصر لحكمه، رغبة منه في تحقيق مصالح استراتيجية ولكن أيضًا علمية. وحاليًا يقام في العاصمة الفرنسية برعاية معهد العالم العربي معرض فني عن الحملة الفرنسية على مصر. سوزان جواد زارت المعرض وكتبت تعرفنا به.
لوحة تأريخية تصوّر دخول نابليون المسجد الأزهر بريشة الفنان هنري ليوبولد ليفري
"ثم دخلوا المسجد الأزهر بخيولهم التي ربطوها باتجاه القبلة" غادر نابليون بونابرت مصر في شهر آب/أغسطس عام 1799 على متن سفينة نقلته بصورة سرية وهادئة ومن دون ضجة. وترك في مصر قواته التي كان يبلغ عددها أكثر من ثلاثين ألف رجل، أولى قيادتهم الجنرال جان كليبر Kléber.
وقد أعلن نابليون من خلال مغادرته مصر عن نهاية الحملة الفرنسية على مصر والتي منيت بهزيمة نكراء. فمثلما بدأت منتصرة قبل ذلك بعام فقط، قُدِّر لها أن تنتهي نهاية فاشلة في عام 1801.
إذن لقد استمر الوجود الفرنسي في مصر ثلاثة أعوام فقط. ويسعى معهد العالم العربي Institut du Monde Arabe من خلال معرضه الجديد إلى توضيح أنَّ هذه الفترة القصيرة تركت في فرنسا وكذلك في مصر آثارًا عميقة. ومن أجل ذلك تم جمع نحو أربعمائة معروضة. وعلى الرغم من أنَّ الموضوع الرئيسي في هذا المعرض يركِّز على الحملة الفرنسية على مصر، بيد أنَّ موضوعات المعرض تبدأ من فترة مبكِّرة. إذ تم اختيار العام 1768 بصورة رمزية كمدخل إلى المعرض، وهو العام الذي ولد فيه نابليون وعلى الأرجح أنَّه في الوقت نفسه عام ولادة محمد علي، أي والي مصر الذي مهَّد الطريق لبناء مصر الحديثة. وثم يمتد المعرض إلى ما بعد الحملة الفرنسية حتى العام 1869، أي عام افتتاح قناة السويس.
وكان من المقرَّر وبتكليف من الحكومة الفرنسية أن يغزو الجنرال الشاب نابليون بونابيرت مصر. وكان الهدف من هذا الغزو تسديد العدو اللدود، أي بريطانيا العظمى ضربة قاضية، لاسيما وأنَّ مصر تقع على الطريق البحري إلى الهند.
ولكن وبالإضافة إلى هذه المصالح الإستراتيجية العسكرية - كان ينبغي أيضًا الاستفادة من الحملة الفرنسية على مصر لأهداف علمية. ففي بداية عصر التنوير رافق أيضًا أكثر من مائة وستين عالما فرنسيا من اختصاصات مختلفة قوات نابليون في تلك الحملة.
نجاح قصير الأمد
وفي البدء كان كلّ شيء يشير إلى نجاح الحملة. إذ هُزمت قوات المماليك الذين كانوا يحكمون مصر في ظلّ السيادة العثمانية، كما أنَّ الفرنسيين احتلوا القاهرة. وحينها كان نابليون يرغب في إشراك المصريين في منجزات عصر التنوير. وتم تشكيل ديوان حكم - مجلس مكوَّن من بعض الوجهاء المصريين لكي يتولّى من تلك اللحظة حكم مصر. وكذلك تم تشجيع التبادل ما بين العلماء الفرنسيين والجانب الثقافي المصري.
لوحة تأريخية للفنان جان ليون جيروم
Bild vergrössern "ثبت فيما بعد أنَّ جنود نابليون لم يكسروا أنف أبي الهول أثناء تمارين الرماية بالمدفعية" غير أنَّ الحال انقلبت بسرعة؛ إذ قضى الإنكليز على سلاح البحرية الفرنسي الذي كان راسيًا أمام سواحل مرفأ أبو قير المصري وكذلك نشأت حركة مقاومة بين المواطنين المصريين. وفي آخر المطاف أعلن السلطان العثماني الجهاد ضدّ الفرنسيين وقامت ثورة في القاهرة. وردّ نابليون باستخدام العنف ضدّ المواطنين المصريين ولم يتوانى عن تدنيس وسلب المسجد الأزهر.
ووصف المؤرِّخ المصري الجبرتي الفرنسيين الذين كان يميل إليهم حتى ذلك بعبارات تعبِّر عن الاستياء: "ثم دخلوا المسجد الأزهر بخيولهم التي ربطوها باتجاه القبلة". قام الفنان الفرنسي هنري ليوبولد ليفري Lévre بتجسيد هذا المشهد في عام 1875 في اللوحة البطولية "نابليون في مسجد القاهرة الكبير".
وتدخّل الإنكليز بعدما حاول الفرنسيون توسيع نطاق حكمهم إلى سوريا، ثم قضوا على الحملة الفرنسية. وحينها كان نابليون قد عاد من جديد ومنذ فترة طويلة إلى أرض وطنه واستغلّ اللحظة المناسبة للاستفراد في الحكم في فرنسا. وفي ذلك كان نابليون يجيد استغلال قدسية الحملة الفرنسية لمصلحته الخاصة.
خسائر عسكرية ومكاسب علمية
خارطة طرق علمية رسمها جيلي روبرت دو فاغوندي
Bild vergrössern تم للمرّة الأولى إبان حملة نابليون على مصر رسم خرائط لجميع أرجاء مصر كانت هذه الحملة فاشلة عسكرًيا، بيد أنَّها حقَّق نجاحًا على المستوى العلمي، حيث تم توثيق المجموعات النباتية والحيوانية الموجودة في مصر، بالإضافة إلى قياس وتقييد الإرث الحضاري الفرعوني وكذلك رسم الملابس وتسجيل العادات والتقاليد المصرية. وكذلك كانت ذروة المكتشفات العلمية من دون شكّ اكتشاف حجر رشيد الموجود في يومنا هذا في المتحف البريطاني في لندن والذي مكَّن بعد اكتشافه ببضعة أعوام من فك رموز الكتابة الهيروغليفية.
وفي أوروبا أدَّى هذا الفيض من المعلومات من ناحية إلى إحداث هوس حقيقي بمصر - يتم عرض مظاهره الآن في معرض معهد العالم العربي في شكل شمعدانات وأوانٍ ومواعين فرعونية ظريفة. وكذلك تطوّر من ناحية أخرى ضمن إطار الحملة الفرنسية على مصر - في الأدب والفن - علم الاستشراق الذي بلغ في أواخر القرن التاسع عشر ذروته في أعمال الفنان أوجين ديلاكروا Delacroix والذي ما يزال يؤثِّر حتى يومنا هذا في تصوّر الغرب عن الشرق، مثلما بيَّن ذلك إدوارد سعيد في كتابه المهم "الاستشراق".
ولكن ما يزال تأثير الحملة الفرنسية على مصر بعيد المدى أيضًا، إذ استطاع محمد علي - هذا الضابط الذي كان يعمل في الجيش العثماني والذي حارب ضدّ القوات الفرنسية - الوصول إلى الحكم في عام 1805 واستطاع تقدير تفوّق الفرنسيين التكنولوجي.
وكان محمد علي يدرك أنَّ على مصر الانفتاح على التقدّم التقني، إذ شرع في تنفيذ برنامج إصلاحات واسع ودعم بصورة خاصة قطاع التعليم الحديث. وبهذا فقد مهَّد الطريق للنهضة التي انطلقت من مصر وأثَّرت ابتداءً منذ منتصف القرن التاسع عشر في جميع أرجاء العالم العربي وتحوَّلت إلى مرجع أساسي من مراجع القومية العربية. وعلى العموم كانت إذن أعوام الحملة الثلاثة القصيرة ذات نتائج بعيدة المدى.[/