د/ نـبـيـل فـاروق
الخوض في تلك السلاسل المتتالية من المقالات والتي تدعو في مجملها إلى ضرورة التفكير والتدبير وإعمال العقل، ومقاومة كل فكر يدعونا إلى العكس بأية حجة كانت حتى ولو كانت إلباس الجهل والتبعية العمياء ثوب الدين -وهو منها بريء؛ قد أصابني في الواقع بحالة من الإرهاق تصيب عادة كل مَن يُحاول أن يُقاوم فكراً استشرى في مجتمع بأكمله..
وانتشار الفكر -أي فكر- لا يعني بالضرورة صحته، بل قد يعني حتماً خطأ هذا الفكر، خاصة لو أن مَن يتبعونه قد تم تحذيرهم مِن التفكير فيما يسمعون أو مناقشته حتى بينهم وبين أنفسهم بعقل ومنطق وحكمة وموعظة حسنة..
فلو أن شخصاً يرتدي ثياباً محترمة دخل معسكراً ضخماً للعراة، سينظر إليه الجميع باعتباره شخصاً شاذاً عما ألفوه؛ لأنهم جميعاً عراة، ولكن الواقع أنه سيكون الشخص السليم الوحيد وسط كل هؤلاء العراة، على الرغم من أنهم جميعاً يتبعون منهج العري نفسه..
ولقد بدأت موجة اعتبار التفكير جدلاً مخالفاً للدين مع بدء تولي معاوية بن أبي سفيان خلافة المسلمين؛ فمعاوية لم يصل إلى عرشه بأسلوب صحيح، بل عبر مذابح قتل فيها الحسن والحسين، ونكل بآل بيت الرسول "صلى الله عليه وسلم"، ولو أعمل الناس فكرهم وناقشوا وجادلوا، لكشفوا المصيبة التي فعلها معاوية، ولثاروا عليه وربما خلعوه عن عرشه أيضاً.
لذا.. كان من الضروري أن يمنعهم معاوية من التفكير، ولا وسيلة يمكن أن تحقق له هدفه سوى استغلال ما أسماه هو شخصياً "لعبة الدين".. وهكذا، وفي عصره بدأ رجال الدين -انتقاهم بعناية- يطلقون هذا المبدأ الهدّام، ويقنعون الناس بأن التفكير جدل، والجدل حرام وصاحبه كافر أو فاسق أو عاصٍ..
خالَفوا بهذا كلمات القرآن العظيم الذي خاطب الخالق "عزّ وجلّ" مِن خلاله عباده وأبلغهم دستوره، وأسْمَاهم بأولي الألباب، وقوم يتفكرون، ويعقلون..
الله "سبحانه وتعالى" خاطب مَن يتفكرون، ورجال الدين في عهد معاوية أقنعوهم بألا يتفكروا..
كان معاوية يحمي نفسه..
ويُحارب شعبه..
ودينه..
من أجل السلطة..
ولأنه كان صاحب سطوة وجبروت، ولأن هذا ساعده مع من انتقاهم من المنافقين الذين ارتدوا ثوب الدين، انطلقت دعوة تكفير التفكير قوية هائلة، اجتاحت كل المعارضين، وكتم هو أنفاس كل مَن نادوا بالعكس، وبوحشية رهيبة بلغت حد وضع أحدهم في قِدرة من النحاس وإدخاله الفرن حياً!!
ومع الوقت والاستمرار غاصت الفكرة في كثير من العقول وارتضت بها النفوس التي قهرها الظلم، وأحنى رؤوسها الاستعباد، وأذلت نفوسها القوة الظالمة، وصدّقت، وأعلنت فحسب أنها تصدّق هذا..
ومع مرور الوقت واستمرار القهر والعبودية والظلم، تحوّلت فكرة حماية العرش بتحريم التفكير إلى قاعدة يؤمن بها الجميع..
وتحققت رغبة معاوية..
واستفاد منها كل الطغاة..
وتذكّرها الناس..
وعملوا بها..
ونسوا ما دعا إليه الدين نفسه..
وذات يوم رأيت داعية مهاب يقول إنه يدعو الله "سبحانه وتعالى" أن يهبه إيمان العوام، وطاعة الجهلاء..
وهالني ما قاله..
وأفزعني..
وانفطر له قلبي..
لماذا وجّه الخالق "عزّ وجلّ" إذن آياته إلى أولي الألباب ومَن يتفكرون ويعقلون، لو أن العظمة تكمن في الجهل والخضوع فحسب؟!
ثم لماذا وكيف آمن مَن قبلنا؟!
أبالقوة والقهر والجبروت؟!!
أم بالعقل والاقتناع والتفكير؟!
وأيهما أكثر قوة في الدين.. مَن اعتنقه إيماناً واحتساباً؟!
أم مَن خضع له وأطاعه، ولم يفهم حتى لماذا؟!
أيهما يُعلي راية الدين؟!
وأيهما يُحني هامته؟!
المأساة أنه حتى مناقشة مثل هذا الأمر، قد صارت في نظر مَن يؤمنون بنظرية الجهلاء هي المروق عن الدين..
والعصيان..
والجدل الشيطاني..
والكفر والعياذ بالله..
وهو تيار لا يختلف كثيراً عن تيار الظلم في أوروبا في العصور الوسطى..
أو عن تيار محاربة الأديان..
كل الأديان..
فرعون اضطهد قوم موسى؛ لأنهم فكّروا، وخالفوا ما تربّوا عليه..
وأباطرة الرومان عذّبوا المسيحيين وألقوهم إلى الأسود؛ لأنهم فكروا وخالفوا ما صار عليه أجدادهم..
والكفار في قريش عذّبوا وقَتلوا واضطهدوا المسلمين؛ لأنهم خالفوا المعتاد وكفروا بآلهتهم وعبدوا الواحد القهار..
الكل طالب من آمنوا عبر العصور بالعودة إلى المألوف..
إلى المعتاد..
الكل اعتبر أن الخروج عن المعتاد كُفر..
الكل عذّب من خرج عن المعتاد..
ثم مرّ الزمن وتطوّر العالَم واندثر مَن عذّبوا، وبقي مَن تعذّبوا وغيرّوا المعتاد وكسروا المألوف، وصنعوا العالم الجديد، وأدان التاريخ والزمن من حاربوا للإبقاء على المعتاد والمألوف..
أصبحوا الآن هم الطغاة.. الجبابرة..
القساة..
والكفّار..
ولكن في أيامهم وفي ذروة جبروتهم وقوتهم لم يقنع حزب المعتاد والمألوف -أبداً- بأن ما يفعله خطأ.. بل تصوّر أنه يحمي المعتاد، ويُحارب من أجل المألوف، وأنه ليس في الإمكان أفضل مما كان..
والطريق إلى الجحيم -كما يقولون- مفروش دوماً بالنوايا الحسنة، والأغراض الطيبة..
ومن الواضح أن النوايا الحسنة وحدها لا تكفي..
والأغراض الطيبة وحدها لا تنفع ولا تشفع..
المهم أن يكون وراء كل هذا فكر..
فكر قادر على التمييز بين الخطأ والصواب..
فكر متطوّر..
مرن..
محايد..
غير متعصّب أو عنصري..
فكر قادر على أن يدفع العالم كله خلفه إلى الأمام، وقادر على إعداد ما نستطيع من قوة ومن رباط الخيل، لنُرهب به عدو الله وعدونا..
والقوة والبأس ورباط الخيل لا يصنعهم المعتاد والمألوف..
بل التفكير..
والعقل..
والقدرة على التحليل والفهم..
وشجاعة على التغيير وقيادة العالَم إلى الأمام..
وليس الوقوف وسط عالَم يتحرّك كالصاروخ في تشبث عصبي متشنّج بالقديم..
كالمعتاد،،،،،،،،