إليك هذا المشهد: أسرة ريفية فقيرة -كبيرة العدد- تتجمع حول طبلية متهالكة عليها طعام بسيط غالبًا بائت. ولأن الأم منهكة من العمل في بيت هذه أو تلك أو مساعدة زوجها في العمل فضلا عن رعاية الأولاد, ولأن الأب مرهق من يوم عمل شاق طويل, فلا مجال لتوزيع "المَنَاب" أي نصيب كل فرد في الطعام القليل أصلاً.. ولأن الابن الأكبر الذي يشقى مع أبيه في العمل لم يشبع فإنه يستكثر نصيب أخيه الأصغر باعتبار هذا الأخير لا يعمل بشكل يستحق معه كل هذا الطعام..
فيأخذ الكبير معظم نصيب الصغير الذي يشكو لأبيه فيزجره قائلاً: "عيب يا واد.. ده الكبير! شقيان وتعبان وبيشيل الحِمل معايا, مش أكل ومرعى وقلة صنعة زيك"، وتصبح تلك العبارة بمثابة قاعدة ثابتة في البيت يُرَد بها على الصغير إذا جار عليه الكبير!
هذا المشهد هو مثال من آلاف الأمثلة لوقائع "فساد" تقع في بيوتنا ويتربى كثير منا على أنها من "المظاهر الطبيعية للحياة".
تخيلوا معي ماذا يكون سلوك هذا "الكبير" إذا رفعته تقلبات الدنيا إلى منصب هو فيه مؤتمن على أرزاق أناس لا يمارسون عمله "الخطير" ولا يتحملون "الأعباء" التي يتحملها! وماذا سيكون موقف "الصغير" من ظلم الكبير له بعد أن تّربّى على أن هذا الأخير له كل الحق في كل ما يفعل ومن يعارضه وغد سيئ الخُلُق؟!
كلنا -حين نتكلم عن الفساد- نذكره بضمير الغائب, مع أنه منا وفينا وعلينا! أتحدث هنا عن الفساد بشكل عام. والسبب أن كلا منا يُستَغرَق في متابعة الفساد العام لدرجة تجاهل فساده الخاص أو حتى عدم إدراكه. وكما قال أحد المفكرين قديمًا: "أعظم إنجاز للشيطان أنه أقنع كثيراً من البشر أنه غير موجود!"
أجل.. فلسبب غير مفهوم يعتقد البعض أن الشياطين المتخصصين في الفساد لا يمارسون عملهم معنا كما يجب, باعتبارهم مشغولين في أمور أكثر أهمية وخطورة! وهي فكرة مفرطة في تنزيه الذات بشكل مريع!.
فالواحد منا لا يلزمه أن يسحب قرضًا بالمليارات بدون ضمان أو أن يُشَغِّل عَبَّارة معطوبة لنقل الرُكاب أو أن يستورد أغذية فاسدة, لنعتبره فاسدًا. فالفساد يتميز بمرونة تعطيه عددًا لا نهائيًا من الأشكال والصور والمساحات, وخطورته تتوقف فقط على موقعه في اللحظة التي يعربد فيها, لكنه في النهاية.. موجود.. الفارق في الموقع بالفعل, فلو أخذنا مثلاً بالمدرس الذي يضطهد التلميذ حتى يعطيه درسًا خصوصيًا, هذا الرجل لو نظرنا إليه مجردًا من صفته المهنية ووضعناه في أي موقع آخر فإنه سيمارس نفس نوع الفساد طالما أن البذرة الأساسية موجودة فيه.
فلو كان ضابط مرور لتعنت في استيقاف السائقين وسحب رخصهم حتى يدفعوا له "المعلوم", ولو كان محاسبًا بالضرائب لقصم ظهور التجار ليعطوه ما فيه النصيب حتى يحسب ضرائبهم بالعدل, ولو كان وزيرًا لإحدى الوزارات ذات الصلة بالعمل التجاري أو الصناعي لأخرج على رجال الأعمال آلاف العفاريت الزرق ليغذّوا أرصدته في سويسرا حتى يعطيهم تصريحات بالعمل هي حقهم من الأساس.. وهكذا.. فقط نصيبه هو ما جعله مدرسًا بسيطًا يعود آخر النهار لمنزله بالبطيخة والجريدة التي يقرأ فيها أخبار الفساد الإداري والحكومي وهو يمصمص شفتيه أسفًا على حال الوطن.
هذا المثال واحد من آلاف الأمثلة, وهو ببساطة يُظهِر لنا أن الفساد موجود في الرجل الفاسد من قبل أن يتولى منصبًا يسمح لفساده أن يكون من النوع الضخم الذي نهتم بمتابعة أخباره في جرائد المعارضة والبرامج الحوارية لنشعر في نهاية اليوم أننا قدّيسين وضحايا ثم ننام قريري الأعين وكل منا يهنئ نفسه أنه -يا بخته- بات مظلومًا لا ظالمًا!
السؤال إذن: أين نقطة البداية؟ متى يبدأ الفساد في التسلل إلينا؟ الإجابة المخيفة أنها ليست نقطة واحدة بل نقاط كثيرة, والإجابة المملة التقليدية -الصحيحة مع ذلك- أن نسبة لا بأس بها من تلك النقاط تبدأ من البيت.
إن بذور الفساد تتكون من خلال مواقف بسيطة, ولكن تلك المواقف لكي تتحول إلى عوامل قوية مكونة لنوع أو أكثر من أنواع الفساد في الفرد يجب أن تمس جانبًا هامًا من حياته وأن تكون لها درجة ثبات معينة, أي أنها تأخذ نفس طريقة "الأعراف والتقاليد" في التكون. وهذا ما يحدث معنا. فنحن نتلقى جرعات مكثفة من الفساد عبر سنوات نشأتنا, فنتلقى فساد "القهر وانعدام حرية الرأي" في البيت من قواعد تربينا عليها تقول: "الكبير دائمًا مُحِق ولو أخطأ في حقك تعتذر أنت له؛ لأنه الكبير".
ونتعلم التفاعل مع الفساد الإداري في مدارسنا من خلال "تظبيط الغياب" أو "ضرب شهادة مرَضية" لمسح أيام الغياب من سجلات المدرسة.. فضلاً عن مشاهدتنا لآبائنا -القدوة والمُثُل- وهم يتفاعلون مع فساد المجتمع بـ"مرونة" دون أدنى محاولة للاعتراض باعتباره أصبح من "قيم وأخلاقيات المجتمع"، وأن معارضته "توقف المراكب السايرة"!، وبالطبع أنا لن أحلل وأفسر هنا في أسطري القليلة ما ينفق علماء النفس والاجتماع كتبًا ضخمة في مجرد سرده!
أعلم أن بعض من سيقرأون هذا المقال سيلوون شفاههم استهزاءًا ويقولون: "ماذا يكون هذا إلى جانب من سرقوا المليارات وأغرقوا الآلاف وأدخلوا لنا الطعام المسرطن؟" أقول لهم: اقرأوا المقال من أوله.. أنا أتحدث عن البذرة التي أنبتت من تتحدثون عنهم.. أتحدث عمن كانوا يومًا أطفالاً مثل أطفالكم أو شبابا كادحين مثلكم أو طلاب ثانوي وجامعة كما أنتم, ثم أصابهم "فيروس" وكَمَنَ فيهم ومارس نشاطه معهم حتى صاروا على ما هم عليه الآن!
أتحدث عن أناس باعتبارهم جزءا من كلمة "نحن" لا "هم"! إن الأمر ليس محاولة للمساواة بين "عذر مرضي كاذب للغياب عن المدرسة" و"ضمان زائف لقرض بمليارات"، بل محاولة لكشف الوجه المشترك بين هذا وذاك لوضع اليد عليه! فكلاهما خطير وشدة خطورة أحدهما لا تنفي خطورة الآخر. ثمة مثل شعبي يقول: "الغجرية سيدة جاراتها"؛ لأن الغجرية (بمعنى السوقية) هي صاحبة الصوت الأعلى.. لكن هل هذا مبرر كافٍ لجعلنا نفترض أن كل جارات الغجرية سيدات مهذبات؟!
أحيانًا نشاهد في الأفلام الأجنبية مشهدًا لمجموعة من المشاركين في برنامج لعلاج الإدمان, يقدم كل منهم نفسه قائلاً: أنا فلان.. وأنا مدمن. فتصفق له المجموعة مهنئة له على شجاعته في الاعتراف بآفته.. هذا ما نحتاجه.
ولأني أحاول تخيل شكل تفاعل القارئ على الجانب الآخر من الصفحة, فإني أتخيل بعضهم الآن يقول: "حسنًا.. نحن مجتمع فاسد.. وماذا بعد؟" لا شيء.. لا أريد سوى الشِقّ الأول.. أن نعترف جميعًا أن الفساد ليس مجرد فساد بعض رجال السلطة, ولا بعض رجال الأعمال, ولا بعض الموظفين, بل هو فساد مجتمعي كامل تحول لدينا إلى نمط حياة صنعناه جميعًا.. أنا لا أريد هنا تقديم حلول.. ولا طرح اقتراحات..
كل ما أريده أن تكون لكل منا الشجاعة أن يتأمل مظاهر "فساده الشخصي" ثم يقول بنفس الشجاعة وبكل جدية: "مرحبًا.. أنا فلان.. وأنا فاسد!"
هل تمتلك الشجاعة الكافية كي تعترف بفسادك؟
هل ترى في الاعتراف بفسادك "فضيحة"؟