المشهد الأول:
المكان: أتوبيس مزدحم جدا..
الزمان: الساعة 8 صباحا
سيدة حامل تحاول إيجاد مساحة فارغة داخل الأتوبيس المكتظّ.
السيدة الحامل: "لو سمحت وسّع شوية مش عارفة أقف"
شاب فنكي: "جرى إيه يا ست إنتي؟؟ ما إنت شايفة الدنيا زحمة"..
صمت طويل.. شخص يقف فجأة استعداداً للنزول، والشاب قفز بسرعة ليجلس مكانه دون أدنى اهتمام بالسيدة الحامل..
الشاب الفنكي: "الدنيا زحمة أوي.. مش معقول واقف من الصبح ما حدش قام علشان أقعد.. الناس جرى لها إيه؟؟" ويحاول أن ينام مسندا رأسه على ظهر المقعد حتى وقت النزول.
عجوز يجلس في الخلف ويراقب المشهد من البداية: في نظرة استنكار وغضب يرد: "تعالي يا بنتي اقعدي مكاني.. أنا مش عارف الدنيا جرى فيها إيه! الظاهر إن الرجالة ماتوا في 73".
يقف العجوز مستندا على ذراع الكرسي ويده الثانية على عكاز قديم وإلى أن يغادر الأتوبيس وهو مستنكر من الحالة التي وصل لها رجال مصر، وكيف أنهم بحق ماتوا في 73 كما نقول.
المشهد الثاني:
المكان: شارع جانبي في وسط البلد
الزمان: يوم 6 أكتوبر - الساعة 12 ظهرا
خناقة في وسط الشارع، والجميع يمر عليها ويكتفي بالمشاهدة من بعيد..
عصام: "ما تيجي يا أخي نشوف الناس دي ونفضّ الخناقة.. كده هيموّتوا بعض وما حدش سائل!!"
فتحي: "باقول لك إيه، بلا خناقة بلا بتاع.. خليهم ياكلوا بعض، ولو ماتوا يبقى أحسن أهو نرتاح منهم.. ما ينوب المخلص إلا تقطيع هدومه.. وبعدين كده هنتأخر على ميعاد الواد عمرو، مستنينا في شارع سليمان باشا بالمسائل.. يلا بقى"..
صوت شادية في خلفية المشهد من كشك صغير:
ما شافش الرجال السمر الشداد فوق كل المحن
ولا شاف العناد في عيون الولاد وتحدي الزمن
ولا شاف إصرار في عيون البشر بيقول أحرار ولازم ننتصر
أصله ما عدّاش على مصر.. يا حبيبتي يا مصر
وهنا ينطلق صوت صاحب المحل العجوز: "اقفل يا واد الراديو ده، قال ما شافش الرجال قال.. تيجي تشوف دلوقتي، الكلام ده كان زمان.. فعلا الرجالة ماتوا في 73 ".
عرفت إحنا بنتكلم على إيه ولا لسه؟؟ على تلك العبارة التي نرددها كل يوم، وعقب كل مشهد مؤسف تنهار فيه قيمة أو مبدأ أو تموت فيه الأخلاق: "الرجالة ماتوا في الحرب" جملة نرددها بمنتهى التلقائية وتحمل بين حروفها ذلك المعنى الذي عجزنا أن نسميه لسنواتٍ، ويسميه المثقفون انهياراً أخلاقياً؛ ولكن الناس العاديين اختصروا ذلك كله في تلك الجملة التي تؤكد دفن أخلاقيات المصريين مع شهدائها في حرب أكتوبر 1973.
وبعيداً عن كون حرب أكتوبر نفسها بالنسبة لكثير من الشباب مجرد ذكرى سطر ونص في كتب التاريخ، أو اسم لكوبري "زحمة أوي"، أو اسم لمدينة جامدة بس ناقصها مترو، أو على حد تعبير شخص عادي سئل سؤالاً بسيطاً: "بماذا يذكرك 6 أكتوبر؟" "ده عيد ميلادي، بيفكرني بماما وبابا".. يعني أصبح ذكرى بعيدة مجوّفة لَدَينا، وخالية من معنى، تتذكره وسائل الإعلام باستضافة رموز الحرب الذين مازالوا على قيد الحياة، وأفلام "الرصاصة لاتزال في جيبي"، و"أغنية على الممر" و"أيام السادات" لمن لايزالون يشاهدون القنوات الأرضية.. لكن ماذا عن الأخلاقيات.. عنا إحنا شباب مصر بعد 36 سنة من حرب أكتوبر؟!
السؤال لك .. والإجابة لديك أيضا.. نحن الآن ومنذ أربعة عقود تقريبا ليس لدينا حرب مع عدو ظاهر؛ بل ما يقال لنا: إننا في سلام مع العدو الأساسي، ولا أعداء لدينا غير إسرائيل.. يعني من المفترض أن حالة الرخاء تنعكس على أخلاقياتنا وليس العكس.. وأن أعظم حرب في تاريخ مصر لا يصح أبدا أن تكون مجرد حرب عسكرية أعادت جزءاً من مصر وكفى، ودفنت معها أخلاقيات غالية مميزة للشعب المصري لتحل محلها اللامبالاة والسلبية وغياب الهدف والقدوة وحالة من التوهان، وشباب يختفي خلف الدخان الأزرق مكتفياً بجلسة علنية للشيشة على قهوة بلدي أو كافيه بالمعنى "المودرن"، وجلسة سرية مع أصدقائه ليضحك بهستيرية على لا شيء وهو يمسك بين أصابعه بسيجارة "محشية"..
المنطق يقول: إن مصر التي أنجبت آلاف الشباب الذين دافعوا عنها بدمائهم وأرواحهم تنجب الآخرين الذين يرفعون راياتها -ليس على جبهة القتال فقط ولكن- في الشوارع والمدارس والجامعات ومجالات العمل المختلف.. لكن صفر المونديال في كل مجالات حياتنا يجعل مصر مثل مدرسة النجاح التي لم ينجح فيها أحد.. ولن ينجح فيها أحد أبداً، ونحن نعيش سنوات وباء الأخلاق الذي يشبه أنفلونزا الخنازير في سرعة العدوى به.
اوعى تكون سرحت أو نمت.. الحكاية مش قصة فيلم؛ لكن إحنا فعلا نحتاج الآن إلى حرب أخرى ليست مع إسرائيل؛ ولكن مع أخلاقياتنا المنهارة.. وكما قال يسري فودة: إننا "نحتاج دعوة إلى الحرب.. لكنها حرب من نوع مختلف يقع ميدانها في بيوتنا وشوارعنا وجامعاتنا وإعلامنا"؛ لسبب بسيط، وهو أن بعد حرب أكتوبر لم يمت الرجال فقط، ولم تترمل نساؤهم فقط؛ ولكن ماتت الحالة الأخلاقية والإنسانية التي صنعت الحرب.. لسبب بسيط آخر؛ لأن الذين حاربوا لم نزرعهم في صوبة منعزلة إلى حين بدء الحرب؛ ولكنهم ولدوا على أرض مصر كلٌ في بيئته، والتي صنعت منه وقت الشدة بطلاً في الميدان وبطلا في المدرسة والجامعة والمسجد والشارع.
ممكن تكون مختلف معانا وعندك وجهة نظر تانية، وتقول: إن مصر ليست بهذا السوء وأن تعبير الانهيار الأخلاقي ليس حقيقة؛ ولكنه من خيال مثقفين يعيشون في برج عاجي.. وأنه مازالت الأخلاقيات موجودة والحالة "زي الفل"، وأن شباب الآن أحسن ألف مرة من شباب أكتوبر 1973، أو تقول حتى: إن جملة "الرجالة ماتوا في 73" مجرد جملة للسخرية ليس إلا، أو ترى في نفسك أنه حين تحين الفرصة ستكون أفضل ممن رفع العلم فوق سيناء، وإذا جاءت الفرصة لن تتوانى عن كتابة "الله أكبر" بالدم على علم مصر.. لكن تذكر حينها أن الكلام أسهل بكثير من الفعل، وأن التضحية تحتاج إلى شخص آخر غير الذي يستمتع برائحة الحشيش والأفلام الإباحية على الموبيل.. "يعني الحكاية مش سهلة زي ما إنت فاهم"؛ وإلا ما كناش نمثل فيلم الهروب عند كل خناقة صغيرة في الشارع، أو نردد "وأنا مالي" مع وردة عند كل موقف يتطلب "وقفة رجالة".
يا ترى الرجالة ماتوا فعلا في 73 زي ما بنقول..
ولا دي مجرد جملة بنقولها للسخرية من نفسنا؟
وشباب مصر 2009 ممكن يعملوا بطولات زي شباب 1973؟
ولا زمن البطولات راح وإحنا في زمن الدنيا خربانه؟
المكان: أتوبيس مزدحم جدا..
الزمان: الساعة 8 صباحا
سيدة حامل تحاول إيجاد مساحة فارغة داخل الأتوبيس المكتظّ.
السيدة الحامل: "لو سمحت وسّع شوية مش عارفة أقف"
شاب فنكي: "جرى إيه يا ست إنتي؟؟ ما إنت شايفة الدنيا زحمة"..
صمت طويل.. شخص يقف فجأة استعداداً للنزول، والشاب قفز بسرعة ليجلس مكانه دون أدنى اهتمام بالسيدة الحامل..
الشاب الفنكي: "الدنيا زحمة أوي.. مش معقول واقف من الصبح ما حدش قام علشان أقعد.. الناس جرى لها إيه؟؟" ويحاول أن ينام مسندا رأسه على ظهر المقعد حتى وقت النزول.
عجوز يجلس في الخلف ويراقب المشهد من البداية: في نظرة استنكار وغضب يرد: "تعالي يا بنتي اقعدي مكاني.. أنا مش عارف الدنيا جرى فيها إيه! الظاهر إن الرجالة ماتوا في 73".
يقف العجوز مستندا على ذراع الكرسي ويده الثانية على عكاز قديم وإلى أن يغادر الأتوبيس وهو مستنكر من الحالة التي وصل لها رجال مصر، وكيف أنهم بحق ماتوا في 73 كما نقول.
المشهد الثاني:
المكان: شارع جانبي في وسط البلد
الزمان: يوم 6 أكتوبر - الساعة 12 ظهرا
خناقة في وسط الشارع، والجميع يمر عليها ويكتفي بالمشاهدة من بعيد..
عصام: "ما تيجي يا أخي نشوف الناس دي ونفضّ الخناقة.. كده هيموّتوا بعض وما حدش سائل!!"
فتحي: "باقول لك إيه، بلا خناقة بلا بتاع.. خليهم ياكلوا بعض، ولو ماتوا يبقى أحسن أهو نرتاح منهم.. ما ينوب المخلص إلا تقطيع هدومه.. وبعدين كده هنتأخر على ميعاد الواد عمرو، مستنينا في شارع سليمان باشا بالمسائل.. يلا بقى"..
صوت شادية في خلفية المشهد من كشك صغير:
ما شافش الرجال السمر الشداد فوق كل المحن
ولا شاف العناد في عيون الولاد وتحدي الزمن
ولا شاف إصرار في عيون البشر بيقول أحرار ولازم ننتصر
أصله ما عدّاش على مصر.. يا حبيبتي يا مصر
وهنا ينطلق صوت صاحب المحل العجوز: "اقفل يا واد الراديو ده، قال ما شافش الرجال قال.. تيجي تشوف دلوقتي، الكلام ده كان زمان.. فعلا الرجالة ماتوا في 73 ".
عرفت إحنا بنتكلم على إيه ولا لسه؟؟ على تلك العبارة التي نرددها كل يوم، وعقب كل مشهد مؤسف تنهار فيه قيمة أو مبدأ أو تموت فيه الأخلاق: "الرجالة ماتوا في الحرب" جملة نرددها بمنتهى التلقائية وتحمل بين حروفها ذلك المعنى الذي عجزنا أن نسميه لسنواتٍ، ويسميه المثقفون انهياراً أخلاقياً؛ ولكن الناس العاديين اختصروا ذلك كله في تلك الجملة التي تؤكد دفن أخلاقيات المصريين مع شهدائها في حرب أكتوبر 1973.
وبعيداً عن كون حرب أكتوبر نفسها بالنسبة لكثير من الشباب مجرد ذكرى سطر ونص في كتب التاريخ، أو اسم لكوبري "زحمة أوي"، أو اسم لمدينة جامدة بس ناقصها مترو، أو على حد تعبير شخص عادي سئل سؤالاً بسيطاً: "بماذا يذكرك 6 أكتوبر؟" "ده عيد ميلادي، بيفكرني بماما وبابا".. يعني أصبح ذكرى بعيدة مجوّفة لَدَينا، وخالية من معنى، تتذكره وسائل الإعلام باستضافة رموز الحرب الذين مازالوا على قيد الحياة، وأفلام "الرصاصة لاتزال في جيبي"، و"أغنية على الممر" و"أيام السادات" لمن لايزالون يشاهدون القنوات الأرضية.. لكن ماذا عن الأخلاقيات.. عنا إحنا شباب مصر بعد 36 سنة من حرب أكتوبر؟!
السؤال لك .. والإجابة لديك أيضا.. نحن الآن ومنذ أربعة عقود تقريبا ليس لدينا حرب مع عدو ظاهر؛ بل ما يقال لنا: إننا في سلام مع العدو الأساسي، ولا أعداء لدينا غير إسرائيل.. يعني من المفترض أن حالة الرخاء تنعكس على أخلاقياتنا وليس العكس.. وأن أعظم حرب في تاريخ مصر لا يصح أبدا أن تكون مجرد حرب عسكرية أعادت جزءاً من مصر وكفى، ودفنت معها أخلاقيات غالية مميزة للشعب المصري لتحل محلها اللامبالاة والسلبية وغياب الهدف والقدوة وحالة من التوهان، وشباب يختفي خلف الدخان الأزرق مكتفياً بجلسة علنية للشيشة على قهوة بلدي أو كافيه بالمعنى "المودرن"، وجلسة سرية مع أصدقائه ليضحك بهستيرية على لا شيء وهو يمسك بين أصابعه بسيجارة "محشية"..
المنطق يقول: إن مصر التي أنجبت آلاف الشباب الذين دافعوا عنها بدمائهم وأرواحهم تنجب الآخرين الذين يرفعون راياتها -ليس على جبهة القتال فقط ولكن- في الشوارع والمدارس والجامعات ومجالات العمل المختلف.. لكن صفر المونديال في كل مجالات حياتنا يجعل مصر مثل مدرسة النجاح التي لم ينجح فيها أحد.. ولن ينجح فيها أحد أبداً، ونحن نعيش سنوات وباء الأخلاق الذي يشبه أنفلونزا الخنازير في سرعة العدوى به.
اوعى تكون سرحت أو نمت.. الحكاية مش قصة فيلم؛ لكن إحنا فعلا نحتاج الآن إلى حرب أخرى ليست مع إسرائيل؛ ولكن مع أخلاقياتنا المنهارة.. وكما قال يسري فودة: إننا "نحتاج دعوة إلى الحرب.. لكنها حرب من نوع مختلف يقع ميدانها في بيوتنا وشوارعنا وجامعاتنا وإعلامنا"؛ لسبب بسيط، وهو أن بعد حرب أكتوبر لم يمت الرجال فقط، ولم تترمل نساؤهم فقط؛ ولكن ماتت الحالة الأخلاقية والإنسانية التي صنعت الحرب.. لسبب بسيط آخر؛ لأن الذين حاربوا لم نزرعهم في صوبة منعزلة إلى حين بدء الحرب؛ ولكنهم ولدوا على أرض مصر كلٌ في بيئته، والتي صنعت منه وقت الشدة بطلاً في الميدان وبطلا في المدرسة والجامعة والمسجد والشارع.
ممكن تكون مختلف معانا وعندك وجهة نظر تانية، وتقول: إن مصر ليست بهذا السوء وأن تعبير الانهيار الأخلاقي ليس حقيقة؛ ولكنه من خيال مثقفين يعيشون في برج عاجي.. وأنه مازالت الأخلاقيات موجودة والحالة "زي الفل"، وأن شباب الآن أحسن ألف مرة من شباب أكتوبر 1973، أو تقول حتى: إن جملة "الرجالة ماتوا في 73" مجرد جملة للسخرية ليس إلا، أو ترى في نفسك أنه حين تحين الفرصة ستكون أفضل ممن رفع العلم فوق سيناء، وإذا جاءت الفرصة لن تتوانى عن كتابة "الله أكبر" بالدم على علم مصر.. لكن تذكر حينها أن الكلام أسهل بكثير من الفعل، وأن التضحية تحتاج إلى شخص آخر غير الذي يستمتع برائحة الحشيش والأفلام الإباحية على الموبيل.. "يعني الحكاية مش سهلة زي ما إنت فاهم"؛ وإلا ما كناش نمثل فيلم الهروب عند كل خناقة صغيرة في الشارع، أو نردد "وأنا مالي" مع وردة عند كل موقف يتطلب "وقفة رجالة".
يا ترى الرجالة ماتوا فعلا في 73 زي ما بنقول..
ولا دي مجرد جملة بنقولها للسخرية من نفسنا؟
وشباب مصر 2009 ممكن يعملوا بطولات زي شباب 1973؟
ولا زمن البطولات راح وإحنا في زمن الدنيا خربانه؟