السنة في لسان النبي صلى الله عليه وسلم
ومفهوم السلف الصالح
المستقرئ لكتب السنة النبوية وسائر ما يتعلق بها يجد أن كلمة ( السنة) قد وردت كثيراً على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك على ألسنة الصحابة والتابعين، وهي بحقيقتها الطريقة المشروعة المتبعة في الدين، والمنهج النبوي الحنيف، وذلك فيما جاء منه في سياق الاستحسان والثناء والطلب والاقتضاء، والشواهد على هذا كثيرة جداً، منها:
1- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (( أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )) (1).
فالرسول صلى الله عليه وسلم استعمل لفظ السنة للدلالة على جملة أحكام الشريعة، فكان المعرض عنها خارجاً عن الإسلام إن كان إعراضه نتيجة لجحوده.
قال القسطلاني - في بيان المراد من السنة هنا: (( والسنة مفرد مضاف يعم على الأرجح فيشمل الشهادتين وسائر أركان الإسلام فيكون المعرض عن ذلك مرتداً )) (2) .
وقال ابن حجر: ((المراد بالسنة: الطريقة، لا التي تقابل الفرض... والمراد: من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري، فليس مني )) (3).
2- عن العرباض بن سارية قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: (( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدا حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة،وكل بدعة ضلالة )) (4).
قال ابن علان: ((فعليكم بسنتي: أي طريقتي وسيرتي القويمة التي أنا عليها، مما فصلته لكم من الأحكام الاعتقادية والعملية الواجبة والمندوبة وغيرها.
وتخصيص الأصوليين لها بـ: المطلوب طلبا غير جازم: اصطلاح طارئ، قصدوا به التمييز بينها وبين الفرض )) (5).
وقال العلامة عبدالغني النابلسي في " الحديقة الندية شرح الطريقة المحمدية ": ((قوله صلى الله عليه وسلم " فعليكم بسنتي.... الحديث ": أي الزموا، يقال: عليك زيداً، أي الزمه، وسنته اسم لأقواله وأفعاله واعتقاداته وأخلاقه وسكوته عند قول الغير أو فعله.
والخلفاء جمع خليفة، والمراد من الخلفاء: الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم، وأفرد الضمير في قوله: (( عضوا عليها )) إشارة إلى أن سنة الخلفاء بعده هي سنته أيضاً، لأنهم سنوها من شريعته إرشاداً وهداية للقاصدين إلى طريقته صلى الله عليه وسلم ، لا من قبل نفوسهم لتمشية أغراضها (6).
وقال السيد الشريف علي الجرجاني: (قوله: وسنة الخلفاء، أي الخلفاء الأربعة، وليس المراد نفي الخلافة عن غيرهم، لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (( يكون في أمتي اثنا عشر خليفة ) ) (7). وإنما المراد تفخيم أمرهم، وتصويب رأيهم، والسيادة لهم بالتفوق على غيرهم، وإنما ذكر سنتهم في مقابلة سنته لأنه علم أنهم لا يخطئون فيما يستخرجونه من السنة بالاجتهاد، ولأنه علم أن بعض سنته لا يشتهر إلا في زمانهم، فأضاف إليهم دفعا لتوهم من ذهب إلى رد تلك السنة) (.
وقال المنذري: قوله (( عضوا عليها بالنواجذ )) أي اجتهدوا على السنة والزموها واحرصوا عليها، كما يلزم العاض على الشيء بنواجذه خوفاً من ذهابه وتفلته،والنواجذ- بالنون والجيم والذال المعجمة - هي الأنياب،وقيل: الأضراس (9).
3- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ( قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بني، إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل، ثم قال لي: يا بني، وذلك من سنتي، ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة) (10).
فقوله ((وذلك من سنتي )) أي من طريقتي، ومن أحيا سنتي، أي أظهرها وأشاعها بالقول أو العمل(فقد أحبني) أي حبا كاملاً، لأن محبة الآثار علامة على محبة مصدرها (ومن أحبني كان معي في الجنة) لأن المرء مع من أحب، وقال الله تعالى: ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين...) [ النساء/69].
4- عن كثير بن عبدالله عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث: (( اعلم، قال: ما أعلم يا رسول الله؟ قال: إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً... الحديث )) (11).
فقوله ( من سنتي) قال الأشرف: ظاهر النظم يقتضي أن يقال ( من سنني) لكن الرواية بصيغة الإفراد، فيكون المراد بها الجنس، أي طريقة من الطرق المنسوبة إلي: واجبة أو مندوبة أخذت عني بنص أو استنباط كما أفاده إضافة سنة إلى الضمير المقتضية للعموم (12).
5- عن كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف بن زيد بن ملحة عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:...... إن الدين بدأ غريبا ويرجع غريبا فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي (13).
6- عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لكل عمل شِرَّة - فترة حرص ونشاط - ولكل ِشرَّة فترة -فتور، أي ضعف- فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك) (14).
7- عن حذيفة قال: " حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة...." (15).
قال ابن حجر: قوله (ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة): فيه إشارة إلى أنهم كانوا يتعلمون القرآن قبل أن يتعلموا السنن، والمراد بالسنن ما يتلقونه عن النبي صلى الله عليه وسلم واجباً كان أو مندوباً (16).
الهوامش:
(1) أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، رقم (5063)، ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه... رقم (3403).
(2) إرشاد الساري (8/4).
(3) فتح الباري (9/105).
(4) أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، رقم (4607)، والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدعة، رقم (2676) وقال: حديث حسن صحيح.
(5) دليل الفالحين (1/415).
(6) نقلا عن تحفة الأخيار بإحياء سنة سيد الأبرار ص 51.
(7) أخرجه البخاري بلفظ (أميرا)، كتاب الأحكام، باب الاستخلاف رقم (7222).
( نقلاً عن تحفة الأخيار ص 49.
(9) الترغيب والترهيب ص 79.
(10) أخرجه الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدعة، رقم (2678)، وقال: هذا حديث حسن غريب.
(11) أخرجه الترمذي، كتاب العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة، رقم (2817). وقال: هذا حديث حسن، والحديث ضعيف لضعف كثير بن عبدالله، ولكن له شواهد.
(12) شرح مشكاة المصابيح للقاري (1/202).
(13) أخرجه الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، رقم (2775) وقال: حديث حسن. قلت: بل ضعيف لضعف كثير بن عبدالله، لكن الحديث قد صح غالبه من وجوه أخرى.
(14) أخرجه ابن حبان في صحيحه - الإحسان - رقم (394) وقال المنذري في الترغيب (1/87): رواه ابن أبي عاصم وابن حبان في صحيحه.
(15) أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب رفع الأمانة، رقم (6497).
(16) فتح الباري (13/39).