د / نبيـل فــاروق
مشكلاتي العديدة، ككاتب يكتب لعدة أماكن، تحتاج دوماً لمن يعاونني على تنظيم وترتيب أعمالي، خاصة وأنني لست ممن يكتبون أعمالهم مباشرة باستخدام لوحة أزرار الكمبيوتر، وإنما مازلت أعشق استخدام القلم الحبر على ورق أبيض؛ لذا أحتاج لمن ينظم الخطابات، ويرتب البريد الإلكتروني، ويجمع ما أكتبه بقلمي على شاشة الكمبيوتر، ويتابع مواعيد الندوات واللقاءات وخلافه..
وعبر سنوات عديدة، جرّبت التعامل مع النوعين..
الذكور والإناث..
في البداية -بالطبع- استخدمت سكرتيراً شاباً؛ لأداء هذه المهام، ومن يومها ارتبكت أعمالي كلها؛ إما لأنه كثير التغيّب، وإما بسبب تكاسله عن أداء الأعمال في مواعيدها..
لم يكن يأتي أبداً في موعده..
ولم يكن يأتي أبداً، دون حجة أو مبرر..
وبعد فترة طويلة، سئمت هذا الأمر، وشعرت أن أعمالي لم تصبح منتظمة كما تمنيت، وإنما صارت أكثر ارتباكاً من ذي قبل..
وهنا، استبدلت المساعد بآخر، باعتبار أنه فاشل في مهمته تلك..
ولكن المساعد الآخر ارتكب المشكلات نفسها..
تكاسل..
غياب..
تأخير..
ومبررات..
عشرات المبررات طوال الوقت، وكأن خبراته كلها تكمن في إيجاد حجج مناسبة؛ لتبرير كل تأخير يحدث، وكل تكاسل يفسد عملاً، وكل تأخير في تسليم الأعمال..
وفوجئت بأن الأمور تواصل الانحدار، من سيئ إلى أسوأ، حتى بعد أن استبدلت المساعد بثالث..
ورابع..
وخامس..
وأخيراً، قررّت اللجوء إلى الاتجاه الآخر..
إلى الإناث..
ولأول مرة في حياتي، استعنت بسكرتيرة أنثى..
وكان الفارق ملموساً وواضحاً..
فجأة، وعلى الرغم من أن السكرتيرة كانت تمتّ لي بصلة قربى وثيقة، بدأت الحياة تنتظم..
الأعمال تنتهي في مواعيدها بالضبط..
الندوات واللقاءات صارت دقيقة ومنضبطة..
تواجدها كان دوماً في مواعيد العمل..
المبررات والحجج انتهت..
حتى المكتب نفسه، صار نظيفاً، منسقاً، أنيقاً..
وانتظمت أعمالي على نحو مدهش، لم يسبق له مثيل، حتى أنني صرت أجد ما يكفي من الوقت للراحة، والقراءة، وممارسة هواياتي المفضلة، وعلى رأسها التصوير الضوئي..
ثم تركت سكرتيرتي العمل، لتواصل مسيرة حياتها في شركة كبرى، وعدت أشعر بالحاجة إلى مساعد..
ويبدو أنني مثل باقي أفراد شعبناً، ولا أتعلَّم من أخطائي جيداً، فقد عدت أستعين بسكرتير رشحه لي صديق عزيز، وأكّد كفاءته ونشاطه..
وعادت أموري كلها ترتبك..
نفس الغياب..
والكسل..
وإهمال العمل والمواعيد..
والمبررَّات..
مبررات.. مبررات.. مبررات، حتى أنني سئمت كل هذا، وعدت أبحث مرة أخرى عن سكرتيرة، وليس سكرتيراً..
ومع وجود سكرتيرة جديدة، عادت الحياة تنتظم..
وتستقر..
وتهدأ..
وبالنسبة لأي إنسان عادي، كان سيكتفي بتعلم الدرس، وسيستقر على اختيار الإناث من دون الذكور..
ولكن مشكلة الكاتب، أن لديه عقلية تحليلية، لا يمكنها أن تتجاوز مثل هذا الأمر في بساطة..
لقد جلست أطرح على نفسي السؤال..
لماذا الأنثى ماهرة في عملها، دقيقة، ومنظمة، وصادقة؟!
ولماذا الذكر ليس كذلك؟!
المشكلة ليست حتماً في الكفاءة؛ لأن بعض من عملوا معي من الذكور، كانوا نظرياً أكثر كفاءة ممن عملن من الإناث..
وليست مسألة سن أيضاً، لأن الجميع -تقريباً- كانوا في أعمار متقاربة..
إنها مسألة تربية إذن...
وهي ليست مسألة فردية، في الذكور الذين اخترتهم، ولكنها مسألة عامة، تكمن في أسلوب تربية الذكور بوجه عام..
نحن، في عالمنا العربي، مازلنا نسعد كثيراً بإنجاب الذكور، ونزهو به، ونتصور أنه يمنحنا مزية على الآخرين، ولأننا نتصور هذا، فنحن ندلل -دون سبب- زهوَنا، ونرفع عنه المسئوليات منذ طفولته، ونعكس ذلك الزهو على ذهنه، فيكمن في أعماقه شعور قوي بأنه مختلف..
ومتميز..
ومتفوق..
أما الأنثى، فهي تشعر، ومنذ البداية، أنها تجلس في الصف الثاني، وليس في الصف الأول..
لذا، فهي تقاتل دوماً، حتى تحصل على ما لها..
هي تقاتل وهو يسترخى..
هي تقوى، وهو يضعف..
أو على الأقل، يقف محلك سر..
ثم تأتي لحظة الاختبار.. والاختيار..
يقفان معاً في سوق العمل، ويواجهان الانتخاب الحقيقي، الذي يحسم دوماً كل الأمور، شئنا أم أبينا..
وفي سوق العمل، البقاء للأكثر قوة..
والأكثر كفاءة..
والأكثر مهارة..
ولأنها تشعر دوماً أنها الأضعف، ولأنه يشعر دوماً أنه الأقوى؛ فهي تكافح طوال الوقت، وهو يزهو طوال الوقت..
وكنتاج طبيعي، هي تصبح الأكثر قوة..
وعندما يبدأ الاختيار، في سوق العمل، تفوز هي، في معظم الأحيان..
تفوز، وتثبت كفاءتها، وتتطور، وتتقدم..
وتربح..
والآن، لو رفضت السطور السابقة، تلفَّت حولك، في كل الشركات الخاصة، وانظر من يتولى المراكز والمناصب القيادية فيها..
الذكور أم الإناث؟!
الإحصائيات الرسمية تؤكَّد أن 70% من المناصب والمراكز القيادية في مصر، في القطاع الخاص، تتولاها الإناث..
أما الذكور، فيفوزون بما يقرب من 30% فحسب..
وهذا مؤشر هام لما أردت قوله من هذه المقالات..
أن أساليب التربية الخاطئة، صنعت المأساة..
صنعت الذكر الضعيف..
والأنثى القوية..
وصنعت أيضاً كارثة كبرى، عندما ينضجان، وتصبح هي أماً، ويصير هو أباً..
وهنا تكمن مشكلة أكبر..
بكثير،،،،،