قال الطبيب البدين لزميله الأصلع :
- تلك الأوراق لا يمكن أن تصدر عن شخص مختل عقلياً .
سأله الأصلع فى إهتمام ، و هو يتناول مشروب الخوخ :
- هل هذا رأيك العلمى ؟
أجابه البدين جازما :
- بالتأكيد .
ثم أردف فى حيرة ، و هو يتأمل طفله يلعب بذلك النادى :
- لكن ما سبب إهتمامك ؟! من غير المعقول أن يؤكد الأطباء الكبار الذين ذكرت أسمائهم ، أن كاتب تلك الأوراق مجنون بشكل كامل ، لا ريب أن الأوراق منسوبة لشخص آخر عاقل قطعاً .
سأله الأصلع بعد صمت لم يتخلله سوى صوت لعب أطفال النادى ، بينما يداعب ذقنه :
- ماذا قرأت حتى الآن ؟
قال البدين و هو يعيد التطلع الى الأوراق القديمة ، لأحد نزلاء مستشفى الأمراض العصبية ، التى يعمل بها صديقه :
- البداية يا صديقى .. شرحه الأولى المتزن لتلك الجرائم لذلك القاتل المتسلسل ، يبدو هنا متأكداً مما يقول ، يدعمه بالأدلة و الشرح المنطقى التام .
هز الأصلع رأسه بتعجب غير مفهوم ، ثم قال :
- حسناً .. أكمل بصوت عال ، و ستفهم سر غرابة تلك الحالة .
* * *
مجنون الصف ..
هذا ما كانوا يطلقونه على بنوع من المزاح فى أثناء دراستى التمهيدية ..
فلقد كنت أمزج الخيال بالواقع بشكل كبير و متواصل ، لم أكن ( مختار الفيومى ) كل يوم ، كنت فى يوم ( آرسين لوبين ) و فى اليوم التالى ( تان تان ) ، و فى آخر ( روكامبول ) ثم المفتش ( كولومبو ) و هكذا .. كنت أتخذ لفظ مجنون بسعادة ، لأنه كان مرادف لجرئ و مغوار و جسور ، و هى صفات أبطالى المفضلين ..
و بعد تلك الحادثة أصبحت مجنون مدينة ( الصف ) بمحافظة ( الجيزة ) – حينئذ - مجنون حقيقى هذه المرة ، و ليس على سبيل الدعابة ..
بدأ الأمر كله فى يوم عاصف مترب من أيام 1994 ، بعد أن انتشر فى المدينة نبأ ذلك القاتل المتسلسل ، أو السفاح كما يسميه الأهالى ، كنت قد تركت مهنة عامل القمامة القذرة ، و اتجهت للعمل سائس بذلك الإسطبل ، صحيح أن روث الخيول مثير للإشمئزاز لدى الناس ، إلا أن مصادقتى لتلك المخلوقات الرائعة جعلنى أكثر صبراً و تقبلاً للحياة ..
فى ذلك اليوم المترب من شهر ( أبريل ) ، غافلت عم ( مخلوف ) حارس المقابر الطيب ، لألقى بتبن الإسطبل الفاسد وسط المقابر القريبة كالعادة ، لست أعلم هل هذا حرام أم ماذا ، فمعلوماتى الدينية تقتصر على صلاة ( الجمعة ) ، و عدم السرقة و بقية الكبائر ، لكنى أنوى حضور دروس المسجد لأفهم دينى أكثر ..
و هناك كان كلب ضخم يحفر و يتشمم بجوار قبر مفتوح مهمل ، فر عندما رآنى رغم أن الوقت كان ليلاً ، و هذا الوقت مملكة ذلك اللاحم ، لكن لفت إنتباهى أن ذلك الهيكل العظمى بالقبر كان لطفل فى حوالى الخامسة ، تطوعت عن عم ( مخلوف ) الكهل لإعادة ردم القبر ..
أعلم أننى أبدو مخيفاً أو غير طبيعى ، لكن الأعمال التى زاولتها تجعلنى لا أمتعض بسهولة ، كما أن حياة الشارع التى عشتها بعد هربى من التعليم ، تؤهلنى للتغلب على أى رهبة أو خوف غريزى ..
فى الصباح استعلمت عن قبر الطفل ، دون أن يلاحظ عم ( مخلوف ) سبب ذلك ، و هو يجيبنى بينما أشاركه كوب الشاى :
- كان أهله رد سجون ، لتجارتهم فى المخدرات هنا فى ( الصف ) ، و قتلته الشرطة أثناء اقتحام عنيف لأحد أوكارهم .. لكن دعك منه و أخبرنى آخر أخبار السفاح .
كنت أعشق – لسبب ما – القراءة و الكتابة رغم عدم إتمامى للمرحلة الإعدادية ، لذا و بعد مطالعتى لجريدة الحوادث أجبته ماطاً شفتى :
- المكتوب أن ذلك الوغد يتعمد قتل عساكر الشرطة و الأمن ، و الشواهد تقول أنه قصير للغاية .
ضحكنا بعد أن قلت العبارة الأخيرة بسخرية كبيرة ، و علق عم ( مخلوف ) الأسوانى الأصل :
- لا ريب أنه يباغتهم فى بطونهم .
قالها و انفجر ضاحكاً لكننى لم أقطع ضحكه ، فقد كان الطب الشرعى يقول ، أن الضحايا بقرت بطونهم ..
الضحايا الثلاث ..
* * *
1999 مرت خمسة سنوات ..
و فى إحدى زياراتى المستمرة لإلقاء التبن سراً ، و بينما أغادر ، لمع فلاش التصوير هذا !
عجباً ! من يصور فى المقابر فى هذا التوقيت ؟!
لم أفكر فى الجن و هذا الهراء ، قلت لكم أننى أملك قلب ( أبى الهول ) ! و خيل الى أنه لربما لص مقابر ، يعبث بكاميرا فوتوغرافية صغيرة ، تلك التى انتشرت هذا العام ..
لكنى فوجئت أنها الشرطة ، تواريت بسرعة و راقبت رجال الطب الجنائى ، الذين كانوا يصورون مقبرة مفتوحة بطريقة روتينية ، سمعت بعض الحديث عن طفل فتذكرت بغتة أن المقبرة لذلك الطفل ، الذى رأيت هيكله منذ سنوات ..
الغريب أن هيكله كان يبدو لى فى وضوح ..
و كان لطفل لديه عشرة أعوام على الأقل ، فما تفسير ذلك .. ؟!
و فى الصباح تظاهرت بجهلى و أنا أقول لعم ( مخلوف ) الذى غزاه الزمن و احتلته السنون ، و تسببت فى ضعف سمعه :
- لماذا خيل الى أننى رأيت أضواء سيارة شرطة فى المكان عبر الإسطبل القريب ؟!
قال عبر فم خاو من الأسنان :
- ذلك الطفل الميت نبش أحدهم قبره ، فأبلغت المركز فجاءوا لعمل إجراء روتينى بعد البلاغ .
بدا مهموماً من ضعفه و قلة حيلته خاصة بعد شدة وطأة الضغط و السكر عليه ، فقلت لأسرى عنه :
- هل تذكر يا عم ( مخلوف ) ذلك السفاح منذ خمسة أعوام ، و الذى كان يقتل جنود الشرطة و الأمن فقط ؟!
بدا أكثر تغضناً و هماً و هو يحاول التذكر ، حتى أشرق وجهه فجأة ، و قال :
- آه .. يبدو أنهم ألقوا القبض عليه ، أو مات .
صحت حتى يسمعنى جيداً :
- كلا أيها العجوز .. لقد توقفت جرائمه من تلقاء نفسها ، المهم أنه عاد بقتل ذلك الضابط السابق ، الذى كان يعمل فى مكافحة المخدرات .
بدا غير مهتماً أو أنه أصيب بـ( ألزهايمر ) مباغت ، و هو يقول مبتسماً :
- لماذا لا تشرب الشاى يا ( مختار ) ؟!
عرفت أنه يكبر حقاً ، لكنى لفت إنتباه نفسى بنفسى لشئ ما ، شئ غريب ..
ذلك الطفل كبر بدوره !
مستحيل أن يتغير شكل الهيكل العظمى لذلك الطفل و الذى رأيته منذ خمسة أعوام لهذه الدرجة ، إلا لو كان ينمو !
لكن كيف ؟
و لماذا ؟
لست أدرى حتى الآن ، لكننى أشعر أننى شاهد على شئ خارق ، لست سخيفاً لدرجة أننى مازلت متعلقاً بالأبطال الخارقين الذين كنت أعشقهم فى طفولتى ، لكن الواقع و الدليل المادى أمامى يقولان هذا ..
كيف ؟!
و لماذا ؟!
لست أدرى حتى الآن لكننى سأبلغ الشرطة على أى حال بما كشفته ..
* * *
أغسطس 2009 بعد عشرة أعوام ..
أحاول ألا أندمج مع المرضى ..
نزلاء مستشفى الأمراض العقلية ..
لقد وعدنى الضباط الذين يحققون فى قضية السفاح منذ عشر سنوات ، أن يباشرون التحقيق لكن مع إحتجازى فى المستشفى ، و ذلك فى ضوء المعلومات التى قدمتها لهم فى ذلك البلاغ ، أشعر بأنهم خدعونى لكننى مازلت مصراً على شهادتى و موقفى ..
أصر على أن ذلك الطفل الميت ينتقم من الشرطة التى قتلته ، و سجنت أهله و ذلك بينما ينمو داخل قبره !
محاولاً فى نفس الوقت أن أعيش فى ذلك الجحيم دون أن أندمج مع المرضى !
أخبرنى طبيبى المعالج قبل عام واحد أنه فى إطار محاولة رد العقل لى ، فينبغى أن أعرف أن عم ( مخلوف ) قد توفاه ربه ، و اليوم يجلس الآن أمامى فى مناقشة جديدة ، متصوراً – للأسف – أننى مجنون ..
مجنون ( الصف ) ..
قال و هو يرمقنى كفأر تجارب من فوق عويناته :
- رائع أنك مازلت محتفظاً بعادتك القديمة فى كتابة المذكرات ، تبدو عادة مشجعة و هى السبب الوحيد تقريباً الذى يجعلنى أتواصل معك بإستمرار ، بمعدل أعلى من باقى المرضى .
نظرت له فى صمت و كراهية ، بعد نفاد كل محاولاتى فى إقناعه بتعقلى ، مما أشعرنى أنها نظرية مؤامرة من الشرطة ، لماذا ؟ سأعرف و لو بعد حين ، و تابع هو :
- فى نفس إطار البحث عن طرف خيط لعقلك المغيب مؤقتاً ، و لربطك بالعالم الخارجى ، سأخبرك بما كنت تتابعه و طلبت معلومات بشأنه .
نظف عويناته فى صمت مستفز نافس به صمتى و برودى ، ثم أكمل :
- لقد عاد السفاح .
إعتدلت بإهتمام كبير ، فالخبر القنبلة يؤكد أن التحقيق بدوره سيعود بعد عشرة أعوام من التوقف ، و لو كان هناك أمل بنسبة نصف فى المائة ، فالضباط سيستدعوننى و ربما يعفون عنى ، و بدا هو مترقباً فى إهتماما لرد فعلى الذى استطرد بعده :
- و بعد قتله لجنديين عاديين ، و قبل أن يعود لإختفائه عشرة أعوام أخرى ، نشرت الشرطة فى الصحف أن شخصاً معيناً عرف سره ، و كشف هويته لعله يسقط فى الفخ هذه المرة .
سألته بفضول و إنفعال جارفين :
- هل انفتح قبر ذلك الصبى فى المقابر الشرقية القديمة ؟ أرجوك لقد طلبت إجابة ذلك السؤال أيضاً .
ابتسم الوغد فى سماجة ، ثم قال :
- أعرف يا ( مختار ) ربطك العجيب بين جثة الطفل ، أو بمعنى أدق رفاته ، و بين السفاح .. لكن تحليلك خاطئ يا صديقى .. لقد نبش قبر لا مراء ، لكنه كان قبر شاب فى أواخر العشرينات من عمره كما أكد الطب الشرعى المتطور .
خفق قلبى فى قوة ..
إنه هو ..
لقد وصل لسن الشباب ، بينما أصل أنا للكهولة ..
تذكرت شيئاً مقلقاً فسألته محاولاً إصطناع الإحترام بصعوبة :
- سؤال أخير يا .. سيدى : من الشخص الذى تصنع به الشرطة المصيدة ؟!
نهض الطبيب المعالج لإنهاء الجلسة ، قائلاً :
- لا تقلق .. إنه أنت .. لكن لا تقلق .. المستشفى محاصر بكمائن مخفاة بمهارة ، و الطريق إليك سيكون مصيدة محكمة للقاتل ، الذى استنتجت الشرطة أنه لن يقاوم إغراء قتل الوحيد الذى يعرف سره .. رغم شكنا الأكيد فى قصتك الأسطورية الظريفة .
و سقط قلبى تماماً بين قدمى ..
سيأتى ..
و لن توقفه الشرطة ..
هذا إن شعروا به أساساً ..
المشكلة أننى أعرف سره حقاً ، و أخبرت الشرطة أن يغلقوا القبر بالفولاذ ، أو ينسفوا الهيكل العظمى للإبن المنتقم ، لكننى مجنون ..!
من سيستمع لمجنون ( الصف ) ..
سيواصل القاتل جرائمه و سيصل لعنقى أنا نفسى ، و لن ينقذنى أحد لأنهم لن يستمعوا لمجنون ..
مجنون ( الصف ) ..
* * *
« أبى .. أبى » .
هز الأصلع صديقه البدين ، فإنتبه هذا كأنه كان يغوص غوصاً فى تلك الأوراق ، و رد بابتسامة شاحبة على ابنه الذى يلعب فى النادى الجميل ، ثم قال لصديقه بنبرة تساؤل عميقة :
- ماذا حدث ؟!
صمت الأصلع لحظات ، ثم مط شفته قائلاً :
- هذا هو نفس السؤال الذى سألته لذات الطبيب المعالج لـ ( مختار الفيومى ) .. الواقع أن أحداً لم يضبط أى متسلل للمستشفى ، لكن الحصار الخفى ظل حتى الصباح ، حيث وجدوا ( مختار ) جثة هامدة بسكتة دماغية و قلبية مزدوجة عنيفة ، و قد كانت آخر كلماته بخط مرتجف للغاية ( لقد جاء .. لقد انتهيت ) .. لم تكن هناك أى آثار تسلل أو اقتحام لغرفته ، و قيدت كوفاة طبيعية بسبب جنونه .
قال البدين فى إنفعال :
- و القبر .. ماذا عن الدليل الدامغ الذى ذكره ؟
تنهد الطبيب الأصلع ، و قال :
- حماسى فى تلك الفترة جعلنى أفكر بنفس الوسيلة ، و عند المقابر عرفت أن القبر قد أصبح خالياً للأبد .. لو كان ( مختار الفيومى ) على حق ، فقد خرج ذلك المسخ المنتقم الى عالمنا بعدما نما بشكل مناسب ، و لو كانت الشرطة و الأطباء على حق ، فليس هناك شيئاً كهذا بالفعل .
هز البدين رأسه بعدم إقتناع ، و قال رافعاً حاجبيه بغير رضا :
- كلا .. كلا .. لكن .. ما رأيك أنت ؟
التقط الأصلع منه الأوراق ، و أعادها الى حقيبته الصغيرة ، قائلاً بلهجة حازمة :
- فى رأيى .. أنه كان هناك شخص عاصر شيئاً ما ، هذا الشئ تسبب فى أن يلقب هو بـ ( مجنون الصف ) .
و أغلق حقيبته ..
* * *
( تمت )
- تلك الأوراق لا يمكن أن تصدر عن شخص مختل عقلياً .
سأله الأصلع فى إهتمام ، و هو يتناول مشروب الخوخ :
- هل هذا رأيك العلمى ؟
أجابه البدين جازما :
- بالتأكيد .
ثم أردف فى حيرة ، و هو يتأمل طفله يلعب بذلك النادى :
- لكن ما سبب إهتمامك ؟! من غير المعقول أن يؤكد الأطباء الكبار الذين ذكرت أسمائهم ، أن كاتب تلك الأوراق مجنون بشكل كامل ، لا ريب أن الأوراق منسوبة لشخص آخر عاقل قطعاً .
سأله الأصلع بعد صمت لم يتخلله سوى صوت لعب أطفال النادى ، بينما يداعب ذقنه :
- ماذا قرأت حتى الآن ؟
قال البدين و هو يعيد التطلع الى الأوراق القديمة ، لأحد نزلاء مستشفى الأمراض العصبية ، التى يعمل بها صديقه :
- البداية يا صديقى .. شرحه الأولى المتزن لتلك الجرائم لذلك القاتل المتسلسل ، يبدو هنا متأكداً مما يقول ، يدعمه بالأدلة و الشرح المنطقى التام .
هز الأصلع رأسه بتعجب غير مفهوم ، ثم قال :
- حسناً .. أكمل بصوت عال ، و ستفهم سر غرابة تلك الحالة .
* * *
مجنون الصف ..
هذا ما كانوا يطلقونه على بنوع من المزاح فى أثناء دراستى التمهيدية ..
فلقد كنت أمزج الخيال بالواقع بشكل كبير و متواصل ، لم أكن ( مختار الفيومى ) كل يوم ، كنت فى يوم ( آرسين لوبين ) و فى اليوم التالى ( تان تان ) ، و فى آخر ( روكامبول ) ثم المفتش ( كولومبو ) و هكذا .. كنت أتخذ لفظ مجنون بسعادة ، لأنه كان مرادف لجرئ و مغوار و جسور ، و هى صفات أبطالى المفضلين ..
و بعد تلك الحادثة أصبحت مجنون مدينة ( الصف ) بمحافظة ( الجيزة ) – حينئذ - مجنون حقيقى هذه المرة ، و ليس على سبيل الدعابة ..
بدأ الأمر كله فى يوم عاصف مترب من أيام 1994 ، بعد أن انتشر فى المدينة نبأ ذلك القاتل المتسلسل ، أو السفاح كما يسميه الأهالى ، كنت قد تركت مهنة عامل القمامة القذرة ، و اتجهت للعمل سائس بذلك الإسطبل ، صحيح أن روث الخيول مثير للإشمئزاز لدى الناس ، إلا أن مصادقتى لتلك المخلوقات الرائعة جعلنى أكثر صبراً و تقبلاً للحياة ..
فى ذلك اليوم المترب من شهر ( أبريل ) ، غافلت عم ( مخلوف ) حارس المقابر الطيب ، لألقى بتبن الإسطبل الفاسد وسط المقابر القريبة كالعادة ، لست أعلم هل هذا حرام أم ماذا ، فمعلوماتى الدينية تقتصر على صلاة ( الجمعة ) ، و عدم السرقة و بقية الكبائر ، لكنى أنوى حضور دروس المسجد لأفهم دينى أكثر ..
و هناك كان كلب ضخم يحفر و يتشمم بجوار قبر مفتوح مهمل ، فر عندما رآنى رغم أن الوقت كان ليلاً ، و هذا الوقت مملكة ذلك اللاحم ، لكن لفت إنتباهى أن ذلك الهيكل العظمى بالقبر كان لطفل فى حوالى الخامسة ، تطوعت عن عم ( مخلوف ) الكهل لإعادة ردم القبر ..
أعلم أننى أبدو مخيفاً أو غير طبيعى ، لكن الأعمال التى زاولتها تجعلنى لا أمتعض بسهولة ، كما أن حياة الشارع التى عشتها بعد هربى من التعليم ، تؤهلنى للتغلب على أى رهبة أو خوف غريزى ..
فى الصباح استعلمت عن قبر الطفل ، دون أن يلاحظ عم ( مخلوف ) سبب ذلك ، و هو يجيبنى بينما أشاركه كوب الشاى :
- كان أهله رد سجون ، لتجارتهم فى المخدرات هنا فى ( الصف ) ، و قتلته الشرطة أثناء اقتحام عنيف لأحد أوكارهم .. لكن دعك منه و أخبرنى آخر أخبار السفاح .
كنت أعشق – لسبب ما – القراءة و الكتابة رغم عدم إتمامى للمرحلة الإعدادية ، لذا و بعد مطالعتى لجريدة الحوادث أجبته ماطاً شفتى :
- المكتوب أن ذلك الوغد يتعمد قتل عساكر الشرطة و الأمن ، و الشواهد تقول أنه قصير للغاية .
ضحكنا بعد أن قلت العبارة الأخيرة بسخرية كبيرة ، و علق عم ( مخلوف ) الأسوانى الأصل :
- لا ريب أنه يباغتهم فى بطونهم .
قالها و انفجر ضاحكاً لكننى لم أقطع ضحكه ، فقد كان الطب الشرعى يقول ، أن الضحايا بقرت بطونهم ..
الضحايا الثلاث ..
* * *
1999 مرت خمسة سنوات ..
و فى إحدى زياراتى المستمرة لإلقاء التبن سراً ، و بينما أغادر ، لمع فلاش التصوير هذا !
عجباً ! من يصور فى المقابر فى هذا التوقيت ؟!
لم أفكر فى الجن و هذا الهراء ، قلت لكم أننى أملك قلب ( أبى الهول ) ! و خيل الى أنه لربما لص مقابر ، يعبث بكاميرا فوتوغرافية صغيرة ، تلك التى انتشرت هذا العام ..
لكنى فوجئت أنها الشرطة ، تواريت بسرعة و راقبت رجال الطب الجنائى ، الذين كانوا يصورون مقبرة مفتوحة بطريقة روتينية ، سمعت بعض الحديث عن طفل فتذكرت بغتة أن المقبرة لذلك الطفل ، الذى رأيت هيكله منذ سنوات ..
الغريب أن هيكله كان يبدو لى فى وضوح ..
و كان لطفل لديه عشرة أعوام على الأقل ، فما تفسير ذلك .. ؟!
و فى الصباح تظاهرت بجهلى و أنا أقول لعم ( مخلوف ) الذى غزاه الزمن و احتلته السنون ، و تسببت فى ضعف سمعه :
- لماذا خيل الى أننى رأيت أضواء سيارة شرطة فى المكان عبر الإسطبل القريب ؟!
قال عبر فم خاو من الأسنان :
- ذلك الطفل الميت نبش أحدهم قبره ، فأبلغت المركز فجاءوا لعمل إجراء روتينى بعد البلاغ .
بدا مهموماً من ضعفه و قلة حيلته خاصة بعد شدة وطأة الضغط و السكر عليه ، فقلت لأسرى عنه :
- هل تذكر يا عم ( مخلوف ) ذلك السفاح منذ خمسة أعوام ، و الذى كان يقتل جنود الشرطة و الأمن فقط ؟!
بدا أكثر تغضناً و هماً و هو يحاول التذكر ، حتى أشرق وجهه فجأة ، و قال :
- آه .. يبدو أنهم ألقوا القبض عليه ، أو مات .
صحت حتى يسمعنى جيداً :
- كلا أيها العجوز .. لقد توقفت جرائمه من تلقاء نفسها ، المهم أنه عاد بقتل ذلك الضابط السابق ، الذى كان يعمل فى مكافحة المخدرات .
بدا غير مهتماً أو أنه أصيب بـ( ألزهايمر ) مباغت ، و هو يقول مبتسماً :
- لماذا لا تشرب الشاى يا ( مختار ) ؟!
عرفت أنه يكبر حقاً ، لكنى لفت إنتباه نفسى بنفسى لشئ ما ، شئ غريب ..
ذلك الطفل كبر بدوره !
مستحيل أن يتغير شكل الهيكل العظمى لذلك الطفل و الذى رأيته منذ خمسة أعوام لهذه الدرجة ، إلا لو كان ينمو !
لكن كيف ؟
و لماذا ؟
لست أدرى حتى الآن ، لكننى أشعر أننى شاهد على شئ خارق ، لست سخيفاً لدرجة أننى مازلت متعلقاً بالأبطال الخارقين الذين كنت أعشقهم فى طفولتى ، لكن الواقع و الدليل المادى أمامى يقولان هذا ..
كيف ؟!
و لماذا ؟!
لست أدرى حتى الآن لكننى سأبلغ الشرطة على أى حال بما كشفته ..
* * *
أغسطس 2009 بعد عشرة أعوام ..
أحاول ألا أندمج مع المرضى ..
نزلاء مستشفى الأمراض العقلية ..
لقد وعدنى الضباط الذين يحققون فى قضية السفاح منذ عشر سنوات ، أن يباشرون التحقيق لكن مع إحتجازى فى المستشفى ، و ذلك فى ضوء المعلومات التى قدمتها لهم فى ذلك البلاغ ، أشعر بأنهم خدعونى لكننى مازلت مصراً على شهادتى و موقفى ..
أصر على أن ذلك الطفل الميت ينتقم من الشرطة التى قتلته ، و سجنت أهله و ذلك بينما ينمو داخل قبره !
محاولاً فى نفس الوقت أن أعيش فى ذلك الجحيم دون أن أندمج مع المرضى !
أخبرنى طبيبى المعالج قبل عام واحد أنه فى إطار محاولة رد العقل لى ، فينبغى أن أعرف أن عم ( مخلوف ) قد توفاه ربه ، و اليوم يجلس الآن أمامى فى مناقشة جديدة ، متصوراً – للأسف – أننى مجنون ..
مجنون ( الصف ) ..
قال و هو يرمقنى كفأر تجارب من فوق عويناته :
- رائع أنك مازلت محتفظاً بعادتك القديمة فى كتابة المذكرات ، تبدو عادة مشجعة و هى السبب الوحيد تقريباً الذى يجعلنى أتواصل معك بإستمرار ، بمعدل أعلى من باقى المرضى .
نظرت له فى صمت و كراهية ، بعد نفاد كل محاولاتى فى إقناعه بتعقلى ، مما أشعرنى أنها نظرية مؤامرة من الشرطة ، لماذا ؟ سأعرف و لو بعد حين ، و تابع هو :
- فى نفس إطار البحث عن طرف خيط لعقلك المغيب مؤقتاً ، و لربطك بالعالم الخارجى ، سأخبرك بما كنت تتابعه و طلبت معلومات بشأنه .
نظف عويناته فى صمت مستفز نافس به صمتى و برودى ، ثم أكمل :
- لقد عاد السفاح .
إعتدلت بإهتمام كبير ، فالخبر القنبلة يؤكد أن التحقيق بدوره سيعود بعد عشرة أعوام من التوقف ، و لو كان هناك أمل بنسبة نصف فى المائة ، فالضباط سيستدعوننى و ربما يعفون عنى ، و بدا هو مترقباً فى إهتماما لرد فعلى الذى استطرد بعده :
- و بعد قتله لجنديين عاديين ، و قبل أن يعود لإختفائه عشرة أعوام أخرى ، نشرت الشرطة فى الصحف أن شخصاً معيناً عرف سره ، و كشف هويته لعله يسقط فى الفخ هذه المرة .
سألته بفضول و إنفعال جارفين :
- هل انفتح قبر ذلك الصبى فى المقابر الشرقية القديمة ؟ أرجوك لقد طلبت إجابة ذلك السؤال أيضاً .
ابتسم الوغد فى سماجة ، ثم قال :
- أعرف يا ( مختار ) ربطك العجيب بين جثة الطفل ، أو بمعنى أدق رفاته ، و بين السفاح .. لكن تحليلك خاطئ يا صديقى .. لقد نبش قبر لا مراء ، لكنه كان قبر شاب فى أواخر العشرينات من عمره كما أكد الطب الشرعى المتطور .
خفق قلبى فى قوة ..
إنه هو ..
لقد وصل لسن الشباب ، بينما أصل أنا للكهولة ..
تذكرت شيئاً مقلقاً فسألته محاولاً إصطناع الإحترام بصعوبة :
- سؤال أخير يا .. سيدى : من الشخص الذى تصنع به الشرطة المصيدة ؟!
نهض الطبيب المعالج لإنهاء الجلسة ، قائلاً :
- لا تقلق .. إنه أنت .. لكن لا تقلق .. المستشفى محاصر بكمائن مخفاة بمهارة ، و الطريق إليك سيكون مصيدة محكمة للقاتل ، الذى استنتجت الشرطة أنه لن يقاوم إغراء قتل الوحيد الذى يعرف سره .. رغم شكنا الأكيد فى قصتك الأسطورية الظريفة .
و سقط قلبى تماماً بين قدمى ..
سيأتى ..
و لن توقفه الشرطة ..
هذا إن شعروا به أساساً ..
المشكلة أننى أعرف سره حقاً ، و أخبرت الشرطة أن يغلقوا القبر بالفولاذ ، أو ينسفوا الهيكل العظمى للإبن المنتقم ، لكننى مجنون ..!
من سيستمع لمجنون ( الصف ) ..
سيواصل القاتل جرائمه و سيصل لعنقى أنا نفسى ، و لن ينقذنى أحد لأنهم لن يستمعوا لمجنون ..
مجنون ( الصف ) ..
* * *
« أبى .. أبى » .
هز الأصلع صديقه البدين ، فإنتبه هذا كأنه كان يغوص غوصاً فى تلك الأوراق ، و رد بابتسامة شاحبة على ابنه الذى يلعب فى النادى الجميل ، ثم قال لصديقه بنبرة تساؤل عميقة :
- ماذا حدث ؟!
صمت الأصلع لحظات ، ثم مط شفته قائلاً :
- هذا هو نفس السؤال الذى سألته لذات الطبيب المعالج لـ ( مختار الفيومى ) .. الواقع أن أحداً لم يضبط أى متسلل للمستشفى ، لكن الحصار الخفى ظل حتى الصباح ، حيث وجدوا ( مختار ) جثة هامدة بسكتة دماغية و قلبية مزدوجة عنيفة ، و قد كانت آخر كلماته بخط مرتجف للغاية ( لقد جاء .. لقد انتهيت ) .. لم تكن هناك أى آثار تسلل أو اقتحام لغرفته ، و قيدت كوفاة طبيعية بسبب جنونه .
قال البدين فى إنفعال :
- و القبر .. ماذا عن الدليل الدامغ الذى ذكره ؟
تنهد الطبيب الأصلع ، و قال :
- حماسى فى تلك الفترة جعلنى أفكر بنفس الوسيلة ، و عند المقابر عرفت أن القبر قد أصبح خالياً للأبد .. لو كان ( مختار الفيومى ) على حق ، فقد خرج ذلك المسخ المنتقم الى عالمنا بعدما نما بشكل مناسب ، و لو كانت الشرطة و الأطباء على حق ، فليس هناك شيئاً كهذا بالفعل .
هز البدين رأسه بعدم إقتناع ، و قال رافعاً حاجبيه بغير رضا :
- كلا .. كلا .. لكن .. ما رأيك أنت ؟
التقط الأصلع منه الأوراق ، و أعادها الى حقيبته الصغيرة ، قائلاً بلهجة حازمة :
- فى رأيى .. أنه كان هناك شخص عاصر شيئاً ما ، هذا الشئ تسبب فى أن يلقب هو بـ ( مجنون الصف ) .
و أغلق حقيبته ..
* * *
( تمت )